الصفحة الرئيسية
>
شجرة التصنيفات
كتاب: المنهاج شرح صحيح مسلم بن الحجاج المشهور بـ «شرح النووي على مسلم»
.باب الصَّلاَةِ عَلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَعْدَ التَّشَهُّدِ: وَهَذِهِ الزِّيَادَة صَحِيحَة رَوَاهَا الْإِمَامَانِ الْحَافِظَانِ أَبُو حَاتِم بْن حِبَّان بِكَسْرِ الْحَاء الْبُسْتِيّ، وَالْحَاكِم أَبُو عَبْد اللَّه فِي صَحِيحَيْهِمَا. قَالَ الْحَاكِم: هِيَ زِيَادَة صَحِيحَة، وَاحْتَجَّ لَهَا أَبُو حَاتِم وَأَبُو عَبْد اللَّه أَيْضًا فِي صَحِيحَيْهِمَا بِمَا رَوَيَاهُ عَنْ فَضَالَة بْن عُبَيْد رَضِيَ اللَّه عَنْهُ أَنَّ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رَأَى رَجُلًا يُصَلِّي لَمْ يَحْمَد اللَّه، وَلَمْ يُمَجِّدهُ، وَلَمْ يُصَلِّ عَلَى النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَقَالَ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «عَجَّلَ هَذَا» ثُمَّ دَعَاهُ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ: «إِذَا صَلَّى أَحَدكُمْ فَلْيَبْدَأ بِحَمْدِ رَبّه وَالثَّنَاء عَلَيْهِ، وَلْيُصَلِّ عَلَى النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَلْيَدْعُ مَا شَاءَ». قَالَ الْحَاكِم: هَذَا حَدِيث صَحِيح عَلَى شَرْط مُسْلِم. وَهَذَا الْحَدِيثَانِ وَإِنْ اِشْتَمَلَا عَلَى مَا لَا يَجِب بِالْإِجْمَاعِ كَالصَّلَاةِ عَلَى الْآل وَالذُّرِّيَّة وَالدُّعَاء، فَلَا يَمْتَنِع الِاحْتِجَاج بِهِمَا، فَإِنَّ الْأَمْر لِلْوُجُوبِ، فَإِذَا خَرَجَ بَعْض مَا يَتَنَاوَلهُ الْأَمْر عَنْ الْوُجُوب بِدَلِيلٍ بَقِيَ الْبَاقِي عَلَى الْوُجُوب. وَاَللَّه أَعْلَم. وَالْوَاجِب عِنْد أَصْحَابنَا اللَّهُمَّ صَلِّ عَلَى مُحَمَّد، وَمَا زَادَ عَلَيْهِ سُنَّة، وَلَنَا وَجْه شَاذّ أَنَّهُ يَجِب الصَّلَاة عَلَى الْآلِ وَلَيْسَ بِشَيْءٍ. وَاَللَّه أَعْلَم. وَاخْتَلَفَ الْعُلَمَاء فِي آلِ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى أَقْوَال: أَظْهَرهَا وَهُوَ اِخْتِيَار الْأَزْهَرِيّ وَغَيْره مِنْ الْمُحَقِّقِينَ أَنَّهُمْ جَمِيع الْأُمَّة، وَالثَّانِي بَنُو هَاشِم وَبَنُو الْمُطَّلِب، وَالثَّالِث أَهْل بَيْته صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَذُرِّيَّته. وَاَللَّه أَعْلَم. 613- قَوْله: (عَنْ نُعَيْم بْن عَبْد اللَّه الْمُجْمِر) هُوَ بِضَمِّ الْمِيم وَإِسْكَان الْجِيم وَكَسْر الْمِيم. وَقَدْ تَقَدَّمَ بَيَانه وَسَبَب تَسْمِيَته الْمُجْمِر، وَأَنَّهُ صِفَة لِنُعَيْمٍ أَوْ لِأَبِيهِ فِي أَوَّل كِتَاب الْوُضُوء. قَوْله: (عَنْ أَبِي مَسْعُود الْأَنْصَارِيّ) هُوَ الْبَدْرِيّ، وَاسْمه عُقْبَة بْن عُمَر، وَتَقَدَّمَ فِي آخِر الْمُقَدِّمَة وَفِي غَيْره. قَوْله: «أَمَرَنَا اللَّه تَعَالَى أَنْ نُصَلِّي عَلَيْك يَا رَسُول اللَّه فَكَيْف نُصَلِّي عَلَيْك» مَعْنَاهُ أَمَرَنَا اللَّه تَعَالَى بِقَوْلِهِ تَعَالَى: {صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا} صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَكَيْفَ نَلْفِظ بِالصَّلَاةِ؟ وَفِي هَذَا أَنَّ مَنْ أَمَرَ بِشَيْءٍ لَا يُفْهَم مُرَاده يُسْأَل عَنْهُ لِيَعْلَم مَا يَأْتِي بِهِ. قَالَ الْقَاضِي: وَيَحْتَمِل أَنْ يَكُون سُؤَالهمْ عَنْ كَيْفِيَّة الصَّلَاة فِي غَيْر الصَّلَاة، وَيَحْتَمِل أَنْ يَكُون فِي الصَّلَاة، قَالَ: وَهُوَ الْأَظْهَر، قُلْت: وَهَذَا ظَاهِر اِخْتِيَار مُسْلِم، وَلِهَذَا ذَكَرَ هَذَا الْحَدِيث فِي هَذَا الْمَوْضِع. قَوْله: «فَسَكَتَ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حَتَّى تَمَنَّيْنَا أَنَّهُ لَمْ يَسْأَلهُ» مَعْنَاهُ كَرِهْنَا سُؤَاله مَخَافَة مِنْ أَنْ يَكُون النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَرِهَ سُؤَاله وَشَقَّ عَلَيْهِ. قَوْله صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «وَالسَّلَام كَمَا قَدْ عَلِمْتُمْ» مَعْنَاهُ قَدْ أَمَرَكُمْ اللَّه تَعَالَى بِالصَّلَاةِ وَالسَّلَام عَلَيَّ فَأَمَّا الصَّلَاة فَهَذِهِ صِفَتهَا، وَأَمَّا السَّلَام فَكَمَا عَلِمْتُمْ فِي التَّشَهُّد وَهُوَ قَوْلهمْ: السَّلَام عَلَيْك أَيّهَا النَّبِيّ وَرَحْمَة اللَّه وَبَرَكَاته. وَقَوْله: (عَلِمْتُمْ) هُوَ بِفَتْحِ الْعَيْن وَكَسْر اللَّام الْمُخَفَّفَة. وَمِنْهُمْ مَنْ رَوَاهُ بِضَمِّ الْعَيْن وَتَشْدِيد اللَّام أَيْ عُلِّمْتُمُوهُ. وَكِلَاهُمَا صَحِيح. قَوْله صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «قُولُوا: اللَّهُمَّ صَلِّ عَلَى مُحَمَّد وَعَلَى آل مُحَمَّد كَمَا صَلَّيْت عَلَى آلِ إِبْرَاهِيم، وَبَارِكْ عَلَى مُحَمَّد وَعَلَى آلِ مُحَمَّد كَمَا بَارَكْت عَلَى آلِ إِبْرَاهِيم» قَالَ الْعُلَمَاء مَعْنَى الْبَرَكَة هُنَا الزِّيَادَة مِنْ الْخَيْر وَالْكَرَامَة، وَقِيلَ: هُوَ بِمَعْنَى التَّطْهِير وَالتَّزْكِيَة، وَاخْتَلَفَ الْعُلَمَاء فِي الْحِكْمَة فِي قَوْله اللَّهُمَّ صَلِّ عَلَى مُحَمَّد كَمَا صَلَّيْت عَلَى إِبْرَاهِيم مَعَ أَنَّ مُحَمَّدًا صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَفْضَل مِنْ إِبْرَاهِيم صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ الْقَاضِي عِيَاض رَضِيَ اللَّه عَنْهُ: أَظْهَر الْأَقْوَال أَنَّ نَبِيّنَا صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ سَأَلَ ذَلِكَ لِنَفْسِهِ وَلِأَهْلِ بَيْته لِيُتِمّ النِّعْمَة عَلَيْهِمْ كَمَا أَتَمَّهَا عَلَى إِبْرَاهِيم وَعَلَى آلِهِ. وَقِيلَ: بَلْ سَأَلَ ذَلِكَ لِأُمَّتِهِ، وَقِيلَ: بَلْ لِيَبْقَى ذَلِكَ لَهُ دَائِمًا إِلَى يَوْم الْقِيَامَة، وَيَجْعَل لَهُ بِهِ لِسَان صِدْق فِي الْآخِرِينَ كَإِبْرَاهِيم صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَقِيلَ: كَانَ ذَلِكَ قَبْل أَنْ يَعْلَم أَنَّهُ أَفْضَل مِنْ إِبْرَاهِيم صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَقِيلَ: سَأَلَ صَلَاة يَتَّخِذهُ بِهَا خَلِيلًا كَمَا اِتَّخَذَ إِبْرَاهِيم. هَذَا كَلَام الْقَاضِي. وَالْمُخْتَار فِي ذَلِكَ أَحَد ثَلَاثَة أَقْوَال: أَحَدهَا حَكَاهُ بَعْض أَصْحَابنَا عَنْ الشَّافِعِيّ رَحِمَهُ اللَّه تَعَالَى أَنَّ مَعْنَاهُ صَلِّ عَلَى مُحَمَّد وَتَمَّ الْكَلَام هُنَا، ثُمَّ اِسْتَأْنَفَ: وَعَلَى آلِ مُحَمَّد أَيْ وَصَلِّ عَلَى آل مُحَمَّد كَمَا صَلَّيْت عَلَى إِبْرَاهِيم وَآل إِبْرَاهِيم، فَالْمَسْئُول لَهُ مِثْل إِبْرَاهِيم وَآلِهِ هُمْ آلُ مُحَمَّد صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَا نَفْسه. الْقَوْل الثَّانِي مَعْنَاهُ اِجْعَلْ لِمُحَمَّدٍ وَآلِهِ صَلَاة مِنْك كَمَا جَعَلَتْهَا لِإِبْرَاهِيم وَآلِهِ فَالْمَسْئُول الْمُشَارَكَة فِي أَصْل الصَّلَاة لَا قَدْرهَا. الْقَوْل الثَّالِث أَنَّهُ عَلَى ظَاهِره وَالْمُرَاد اِجْعَلْ لِمُحَمَّدٍ وَآلِهِ صَلَاة بِمِقْدَارِ الصَّلَاة الَّتِي لِإِبْرَاهِيم وَآلِهِ وَالْمَسْئُول مُقَابَلَة الْجُمْلَة فَإِنَّ الْمُخْتَار فِي الْآلِ كَمَا قَدَّمْنَاهُ أَنَّهُمْ جَمِيع الْأَتْبَاع وَيَدْخُل فِي آلِ إِبْرَاهِيم خَلَائِق لَا يُحْصُونَ مِنْ الْأَنْبِيَاء، وَلَا يَدْخُل فِي آلِ مُحَمَّد صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نَبِيّ فَطَلَب إِلْحَاق هَذِهِ الْجُمْلَة الَّتِي فيها نَبِيّ وَاحِد بِتِلْكَ الْجُمْلَة الَّتِي فيها خَلَائِق مِنْ الْأَنْبِيَاء. وَاَللَّه أَعْلَم. قَالَ الْقَاضِي عِيَاض: وَلَمْ يَجِيء فِي هَذِهِ الْأَحَادِيث ذِكْر الرَّحْمَة عَلَى النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَقَدْ وَقَعَ فِي بَعْض الْأَحَادِيث الْغَرِيبَة قَالَ: وَاخْتَلَفَ شُيُوخنَا فِي جَوَاز الدُّعَاء لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِالرَّحْمَةِ، فَذَهَبَ بَعْضهمْ وَهُوَ اِخْتِيَار أَبِي عُمَر بْن عَبْد الْبَرّ إِلَى أَنَّهُ يُقَال، وَأَجَازَهُ غَيْره، وَهُوَ مَذْهَب أَبِي مُحَمَّد بْن أَبِي زَيْد، وَحُجَّة الْأَكْثَرِينَ تَعْلِيم النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الصَّلَاة عَلَيْهِ وَلَيْسَ فيها ذِكْر الرَّحْمَة، وَالْمُخْتَار أَنَّهُ لَا يَذْكُر الرَّحْمَة. وَقَوْله: (وَبَارِكْ عَلَى مُحَمَّد وَعَلَى آلِ مُحَمَّد) قِيلَ: الْبَرَكَة هُنَا الزِّيَادَة مِنْ الْخَيْر وَالْكَرَامَة، وَقِيلَ: الثَّبَات عَلَى ذَلِكَ، مِنْ قَوْلهمْ بَرَكَتْ الْإِبِل أَيْ ثَبَتَتْ عَلَى الْأَرْض، وَمِنْهُ بَرَكَة الْمَاء، وَقِيلَ: التَّزْكِيَة وَالتَّطْهِير مِنْ الْعُيُوب كُلّهَا. وَقَوْله: اللَّهُمَّ صَلِّ عَلَى مُحَمَّد وَعَلَى آلِ مُحَمَّد اِحْتَجَّ بِهِ مَنْ أَجَازَ الصَّلَاة عَلَى غَيْر الْأَنْبِيَاء، وَهَذَا مِمَّا اِخْتَلَفَ الْعُلَمَاء فيه، فَقَالَ مَالِك وَالشَّافِعِيّ رَحِمَهُمَا اللَّه تَعَالَى وَالْأَكْثَرُونَ: لَا يُصَلِّي عَلَى غَيْر الْأَنْبِيَاء اِسْتِقْلَالًا فَلَا يُقَال: اللَّهُمَّ صَلِّ عَلَى أَبِي بَكْر، أَوْ عُمَر، أَوْ عَلِيّ، أَوْ غَيْرهمْ وَلَكِنْ يُصَلِّي عَلَيْهِمْ تَبَعًا فَيُقَال: اللَّهُمَّ صَلِّ عَلَى مُحَمَّد، وَآلِ مُحَمَّد، وَأَصْحَابه، وَأَزْوَاجه، وَذُرِّيَّته، كَمَا جَاءَتْ بِهِ الْأَحَادِيث. وَقَالَ أَحْمَد وَجَمَاعَة: يُصَلَّى عَلَى كُلّ وَاحِد مِنْ الْمُؤْمِنِينَ مُسْتَقِلًّا وَاحْتَجُّوا بِأَحَادِيث الْبَاب، وَبِقَوْلِهِ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «اللَّهُمَّ صَلِّ عَلَى آلِ أَبِي أَوْفَى»، وَكَانَ إِذَا أَتَاهُ قَوْم بِصَدَقَتِهِمْ صَلَّى عَلَيْهِمْ. قَالُوا: وَهُوَ مُوَافِق لِقَوْلِ اللَّه تَعَالَى: {هُوَ الَّذِي يُصَلِّي عَلَيْكُمْ وَمَلَائِكَته} وَاحْتَجَّ الْأَكْثَرُونَ بِأَنَّ هَذَا النَّوْع مَأْخُوذ مِنْ التَّوْقِيف، وَاسْتِعْمَال السَّلَف، وَلَمْ يُنْقَل اِسْتِعْمَالهمْ ذَلِكَ بَلْ خَصُّوا بِهِ الْأَنْبِيَاء كَمَا خَصُّوا اللَّه تَعَالَى بِالتَّقْدِيسِ وَالتَّسْبِيح، فَيُقَال: قَالَ اللَّه سُبْحَانه وَتَعَالَى، وَقَالَ اللَّه تَعَالَى، وَقَالَ عَزَّ وَجَلَّ، وَقَالَ جَلَّتْ عَظَمَته، وَتَقَدَّسَتْ أَسْمَاؤُهُ، وَتَبَارَكَ وَتَعَالَى، وَنَحْو ذَلِكَ وَلَا يُقَال: قَالَ النَّبِيّ عَزَّ وَجَلَّ، وَإِنْ كَانَ عَزِيزًا جَلِيلًا وَلَا نَحْو ذَلِكَ، وَأَجَابُوا عَنْ قَوْل اللَّه عَزَّ وَجَلَّ: {هُوَ الَّذِي يُصَلِّي عَلَيْكُمْ وَمَلَائِكَته} وَعَنْ الْأَحَادِيث بِأَنَّ مَا كَانَ مِنْ اللَّه عَزَّ وَجَلَّ وَرَسُوله فَهُوَ دُعَاء وَتَرَحُّم، وَلَيْسَ فيه مَعْنَى التَّعْظِيم وَالتَّوْقِير الَّذِي يَكُون مِنْ غَيْرهمَا. وَأَمَّا الصَّلَاة عَلَى الْآلِ وَالْأَزْوَاج وَالذُّرِّيَّة فَإِنَّمَا جَاءَ عَلَى التَّبَع لَا عَلَى الِاسْتِقْلَال، وَقَدْ بَيَّنَّا أَنَّهُ يُقَال تَبَعًا لِأَنَّ التَّابِع يَحْتَمِل فيه مَا لَا يَحْتَمِل اِسْتِقْلَالًا. وَاخْتَلَفَ أَصْحَابنَا فِي الصَّلَاة عَلَى غَيْر الْأَنْبِيَاء هَلْ يُقَال: هُوَ مَكْرُوه، أَوْ هُوَ مُجَرَّد، تَرْك أَدَب؟ وَالصَّحِيح الْمَشْهُور أَنَّهُ مَكْرُوه كَرَاهَة تَنْزِيه. قَالَ الشَّيْخ أَبُو مُحَمَّد الْجُوَيْنِيّ: وَالسَّلَام فِي مَعْنَى الصَّلَاة فَإِنَّ اللَّه تَعَالَى قَرَنَ بَيْنهمَا فَلَا يُفْرَد بِهِ غَائِب غَيْر الْأَنْبِيَاء فَلَا يُقَال أَبُو بَكْر وَعُمَر وَعَلِيّ عَلَيْهِمْ السَّلَام وَإِنَّمَا يُقَال ذَلِكَ خِطَابًا لِلْأَحْيَاءِ وَالْأَمْوَات فَيُقَال: السَّلَام عَلَيْكُمْ وَرَحْمَة اللَّه. وَاَللَّه أَعْلَم. 616- قَوْله صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «مَنْ صَلَّى عَلَيَّ وَاحِدَة صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ عَشْرًا» قَالَ الْقَاضِي: مَعْنَاهُ رَحْمَته وَتَضْعِيف أَجْره كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {مَنْ جَاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ عَشْر أَمْثَالهَا} قَالَ: وَقَدْ يَكُون الصَّلَاة عَلَى وَجْههَا وَظَاهِرهَا تَشْرِيفًا لَهُ بَيْن الْمَلَائِكَة كَمَا فِي الْحَدِيث: «وَإِنْ ذَكَرَنِي فِي مَلَأ ذَكَرْتُهُ فِي مَلَأ خَيْر مِنْهُمْ». .باب التَّسْمِيعِ وَالتَّحْمِيدِ وَالتَّأْمِينِ: وَقَالَ الْأَكْثَرُونَ: يَجْهَر. وَقَوْله صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «مَنْ وَافَقَ قَوْله قَوْل الْمَلَائِكَة» وَمَنْ وَافَقَ تَأْمِينه تَأْمِين الْمَلَائِكَة مَعْنَاهُ: وَافَقَهُمْ فِي وَقْت التَّأْمِين فَأَمَّنَ مَعَ تَأْمِينهمْ فَهَذَا هُوَ الصَّحِيح وَالصَّوَاب. وَحَكَى الْقَاضِي عِيَاض قَوْلًا أَنَّ مَعْنَاهُ وَافَقَهُمْ فِي الصِّفَة وَالْخُشُوع وَالْإِخْلَاص، وَاخْتَلَفُوا فِي هَؤُلَاءِ الْمَلَائِكَة فَقِيلَ هُمْ الْحَفَظَة وَقِيلَ غَيْرهمْ لِقَوْلِهِ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «فَوَافَقَ قَوْله قَوْل أَهْل السَّمَاء» وَأَجَابَ الْأَوَّلُونَ عَنْهُ بِأَنَّهُ إِذَا قَالَهَا الْحَاضِرُونَ مِنْ الْحَفَظَة قَالَهَا مِنْ فَوْقهمْ حَتَّى يَنْتَهِي إِلَى أَهْل السَّمَاء. 617- سبق شرحه بالباب. 618- وَقَوْل اِبْن شِهَاب: «وَكَانَ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُول: آمِينَ» مَعْنَاهُ أَنَّ هَذِهِ صِيغَة تَأْمِين النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَهُوَ تَفْسِير لِقَوْلِهِ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: إِذَا أَمَّنَ الْإِمَام فَأَمِّنُوا. وَرَدَ لِقَوْلِ مَنْ زَعَمَ أَنَّ مَعْنَاهُ إِذَا دَعَا الْإِمَام بِقَوْلِهِ: اِهْدِنَا الصِّرَاط... إِلَى آخِرهَا. وَفِي هَذَا الْحَدِيث دَلِيل عَلَى قِرَاءَة الْفَاتِحَة لِأَنَّ التَّأْمِين لَا يَكُون إِلَّا عَقِبهَا. وَاَللَّه أَعْلَم. .باب ائْتِمَامِ الْمَأْمُومِ بِالإِمَامِ: 622- قَوْله: (جُحِشَ) هُوَ بِجِيمٍ مَضْمُومَة ثُمَّ حَاء مُهْمَلَة مَكْسُورَة أَيْ خُدِشَ. (وَقَوْله: فَحَضَرَتْ الصَّلَاة) ظَاهِره أَنَّهُ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ صَلَّى بِهِمْ صَلَاة مَكْتُوبَة. وَفِي جَوَاز الْإِشَارَة وَالْعَمَل الْقَلِيل فِي الصَّلَاة لِلْحَاجَةِ. وَفِي مُتَابَعَة الْإِمَام فِي الْأَفْعَال وَالتَّكْبِير. وَقَوْله: (رَبّنَا وَلَك الْحَمْد) كَذَا وَقَعَ هُنَا وَلَك الْحَمْد بِالْوَاوِ، وَفِي رِوَايَات بِحَذْفِهَا وَقَدْ سَبَقَ أَنَّهُ يَجُوز الْأَمْرَانِ وَفيه وُجُوب مُتَابَعَة الْمَأْمُوم لِإِمَامِهِ فِي التَّكْبِير وَالْقِيَام وَالْقُعُود وَالرُّكُوع وَالسُّجُود، وَأَنَّهُ يَفْعَلهَا بَعْد الْمَأْمُوم فَيُكَبِّر تَكْبِيرَة الْإِحْرَام بَعْد فَرَاغ الْإِمَام مِنْهَا، فَإِنْ شَرَعَ فيها قَبْل فَرَاغ الْإِمَام مِنْهَا لَمْ تَنْعَقِد صَلَاته، وَيَرْكَع بَعْد شُرُوع الْإِمَام فِي الرُّكُوع وَقَبْل رَفْعه مِنْهُ، فَإِنْ قَارَنَهُ أَوْ سَبَقَهُ فَقَدْ أَسَاءَ، وَلَكِنْ لَا تَبْطُل صَلَاته، وَكَذَا السُّجُود، وَيُسَلِّم بَعْد فَرَاغ الْإِمَام مِنْ السَّلَام، فَإِنْ سَلَّمَ قَبْله بَطَلَتْ صَلَاته إِلَّا أَنْ يَنْوِي الْمُفَارَقَة فَفيه خِلَاف مَشْهُور، وَإِنْ سَلَّمَ مَعَهُ لَا قَبْله وَلَا بَعْده فَقَدْ أَسَاءَ وَلَا تَبْطُل صَلَاته عَلَى الصَّحِيح، وَقِيلَ: تَبْطُل. وَأَمَّا قَوْله صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «وَإِذَا صَلَّى قَاعِدًا فَصَلُّوا قُعُودًا» فَاخْتَلَفَ الْعُلَمَاء فيه فَقَالَتْ طَائِفَة بِظَاهِرِهِ. وَمِمَّنْ قَالَ بِهِ أَحْمَد بْن حَنْبَل وَالْأَوْزَاعِيّ رَحِمَهُمَا اللَّه تَعَالَى، وَقَالَ مَالِك رَحِمَهُ اللَّه تَعَالَى فِي رِوَايَة: لَا يَجُوز صَلَاة الْقَادِر عَلَى الْقِيَام خَلْف الْقَاعِد لَا قَائِمًا وَلَا قَاعِدًا، وَقَالَ أَبُو حَنِيفَة وَالشَّافِعِيّ وَجُمْهُور السَّلَف رَحِمَهُمْ اللَّه تَعَالَى: لَا يَجُوز لِلْقَادِرِ عَلَى الْقِيَام أَنْ يُصَلِّي خَلْف الْقَاعِد إِلَّا قَائِمًا وَاحْتَجُّوا بِأَنَّ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ صَلَّى فِي مَرَض وَفَاته بَعْد هَذَا قَاعِدًا وَأَبُو بَكْر رَضِيَ اللَّه عَنْهُ وَالنَّاس خَلْفه قِيَامًا وَإِنْ كَانَ بَعْض الْعُلَمَاء زَعَمَ أَنَّ أَبَا بَكْر رَضِيَ اللَّه عَنْهُ كَانَ هُوَ الْإِمَام وَالنَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مُقْتَدٍ بِهِ لَكِنْ الصَّوَاب أَنَّ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ هُوَ الْإِمَام وَقَدْ ذَكَرَهُ مُسْلِم بَعْد هَذَا الْبَاب صَرِيحًا أَوْ كَالصَّرِيحِ فَقَالَ فِي رِوَايَته عَنْ أَبِي بَكْر بْن أَبِي شَيْبَة بِإِسْنَادِهِ عَنْ عَائِشَة رَضِيَ اللَّه عَنْهَا قَالَتْ: فَجَاءَ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حَتَّى جَلَسَ عَنْ يَسَار أَبِي بَكْر، وَكَانَ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُصَلِّي بِالنَّاسِ جَالِسًا وَأَبُو بَكْر قَائِمًا يَقْتَدِي أَبُو بَكْر بِصَلَاةِ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَيَقْتَدِي النَّاس بِصَلَاةِ أَبِي بَكْر. وَأَمَّا قَوْله صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «إِنَّمَا جُعِلَ الْإِمَام لِيُؤْتَمّ بِهِ» فَمَعْنَاهُ عِنْد الشَّافِعِيّ وَطَائِفَة فِي الْأَفْعَال الظَّاهِرَة وَإِلَّا فَيَجُوز أَنْ يُصَلِّي الْفَرْض خَلْف النَّفْل وَعَكْسه، وَالظُّهْر خَلْف الْعَصْر، وَقَالَ مَالِك وَأَبُو حَنِيفَة رَضِيَ اللَّه عَنْهُمَا وَآخَرُونَ: لَا يَجُوز ذَلِكَ. وَقَالُوا: مَعْنَى الْحَدِيث لِيُؤْتَمّ بِهِ فِي الْأَفْعَال وَالنِّيَّات، وَدَلِيل الشَّافِعِيّ رَضِيَ اللَّه عَنْهُ وَمُوَافِقِيهِ أَنَّ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ صَلَّى بِأَصْحَابِهِ بِبَطْنِ نَخْل صَلَاة الْخَوْف مَرَّتَيْنِ بِكُلِّ فِرْقَة مَرَّة، فَصَلَاته الثَّانِيَة وَقَعَتْ لَهُ نَفْلًا وَلِلْمُقْتَدِينَ فَرْضًا. وَأَيْضًا حَدِيث مُعَاذ كَانَ يُصَلِّي الْعِشَاء مَعَ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، ثُمَّ يَأْتِي قَوْمه فَيُصَلِّيهَا بِهِمْ هِيَ لَهُ تَطَوُّع وَلَهُمْ فَرِيضَة. مِمَّا يَدُلّ عَلَى أَنَّ الِائْتِمَام إِنَّمَا يَجِب فِي الْأَفْعَال الظَّاهِرَة. 624- قَوْله صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «إِنْ كِدْتُمْ تَفْعَلُونَ فِعْل فَارِس وَالرُّوم يَقُومُونَ عَلَى مُلُوكهمْ وَهُمْ قُعُود فَلَا تَفْعَلُوا» فيه النَّهْي عَنْ قِيَام الْغِلْمَان وَالتُّبَّاع عَلَى رَأْس مَتْبُوعهمْ الْجَالِس لِغَيْرِ حَاجَة، وَأَمَّا الْقِيَام لِلدَّاخِلِ إِذَا كَانَ مِنْ أَهْل الْفَضْل وَالْخَيْر فَلَيْسَ مِنْ هَذَا، بَلْ هُوَ جَائِز قَدْ جَاءَتْ بِهِ أَحَادِيث، وَأَطْبَقَ عَلَيْهِ السَّلَف وَالْخَلَف وَقَدْ جُمِعَتْ دَلَائِله وَمَا يَرُدّ عَلَيْهِ فِي جُزْء. وَبِاَللَّهِ التَّوْفِيق وَالْعِصْمَة. .باب النَّهْيِ عَنْ مُبَادَرَةِ الإِمَامِ بِالتَّكْبِيرِ وَغَيْرِهِ: .باب اسْتِخْلاَفِ الإِمَامِ إِذَا عَرَضَ لَهُ عُذْرٌ مِنْ مَرَضٍ وَسَفَرٍ وَغَيْرِهِمَا مَنْ يُصَلِّي بِالنَّاسِ وَأَنَّ مَنْ صَلَّى خَلْفَ إِمَامٍ جَالِسٍ لِعَجْزِهِ عَنِ الْقِيَامِ لَزِمَهُ الْقِيَامُ إِذَا قَدَرَ عَلَيْهِ وَنَسْخِ الْقُعُودِ خَلْفَ الْقَاعِدِ فِي حَقِّ مَنْ قَدَرَ عَلَى الْقِيَامِ: 629- قَوْلهَا: (الْمِخْضَب) هُوَ بِكَسْرِ الْمِيم وَبِخَاءٍ وَضَاد مُعْجَمَتَيْنِ وَهُوَ إِنَاء نَحْو الْمِرْكَن الَّذِي يُغْسَل فيه. قَوْله: (ذَهَبَ لِيَنُوءَ) أَيْ يَقُوم وَيَنْهَض. وَقَوْله: (فَأُغْمِيَ عَلَيْهِ) دَلِيل عَلَى جَوَاز الْإِغْمَاء عَلَى الْأَنْبِيَاء صَلَوَات اللَّه وَسَلَامه عَلَيْهِمْ، وَلَا شَكَّ فِي جَوَازه فَإِنَّهُ مَرَض، وَالْمَرَض يَجُوز عَلَيْهِمْ بِخِلَافِ الْجُنُون فَإِنَّهُ لَا يَجُوز عَلَيْهِمْ لِأَنَّهُ نَقْص، وَالْحِكْمَة فِي جَوَاز الْمَرَض عَلَيْهِمْ وَمَصَائِب الدُّنْيَا تَكْثِير أَجْرهمْ، وَتَسْلِيَة النَّاس بِهِمْ، وَلِئَلَّا يَفْتَتِن النَّاس بِهِمْ وَيَعْبُدُوهُمْ لِمَا يَظْهَر عَلَيْهِمْ مِنْ الْمُعْجِزَات وَالْآيَات الْبَيِّنَات. وَاَللَّه أَعْلَم. قَوْله: «فَقَالَ أَصَلَّى النَّاس؟ فَقِيلَ: لَا وَهُمْ يَنْتَظِرُونَك يَا رَسُول اللَّه» دَلِيل عَلَى أَنَّهُ إِذَا تَأَخَّرَ الْإِمَام عَنْ أَوَّل الْوَقْت وَرُجِيَ مَجِيئُهُ عَلَى قُرْب يَنْتَظِر وَلَا يَتَقَدَّم غَيْره. وَسَنَبْسُطُ الْمَسْأَلَة فِي الْبَاب بَعْده إِنْ شَاءَ اللَّه تَعَالَى. قَوْلهَا: «قَالَ: ضَعُوا لِي مَاء فِي الْمِخْضَب فَفَعَلْنَا فَاغْتَسَلَ» دَلِيل الِاسْتِحْبَاب بِالْغُسْلِ مِنْ الْإِغْمَاء وَإِذَا تَكَرَّرَ الْإِغْمَاء اُسْتُحِبَّ تَكَرُّر الْغَسْل لِكُلِّ مَرَّة فَإِنْ لَمْ يَغْتَسِل إِلَّا بَعْد الْإِغْمَاء مَرَّات كَفَى غَسْل وَاحِد. وَقَدْ حَمَلَ الْقَاضِي عِيَاض الْغَسْل هُنَا عَلَى الْوُضُوء مِنْ حَيْثُ إِنَّ الْإِغْمَاء يَنْقُض الْوُضُوء، وَلَكِنَّ الصَّوَاب أَنَّ الْمُرَاد غَسْل جَمِيع الْبَدَن، فَإِنَّهُ ظَاهِر اللَّفْظ، وَلَا مَانِع يَمْنَع مِنْهُ فَإِنَّ الْغَسْل مُسْتَحَبّ مِنْ الْإِغْمَاء، بَلْ قَالَ بَعْض أَصْحَابنَا: إِنَّهُ وَاجِب وَهَذَا شَاذّ ضَعِيف. قَوْله: (وَالنَّاس عُكُوف) أَيْ مُجْتَمِعُونَ مُنْتَظِرُونَ لِخُرُوجِ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَصْل الِاعْتِكَاف اللُّزُوم وَالْحَبْس. قَوْلهَا: (لِصَلَاةِ الْعِشَاء الْآخِرَة) دَلِيل عَلَى صِحَّة قَوْل الْإِنْسَان الْعِشَاء الْآخِرَة، وَقَدْ أَنْكَرَهُ الْأَصْمَعِيّ، وَالصَّوَاب جَوَازه فَقَدْ صَحَّ عَنْ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَعَائِشَة وَأَنَس وَالْبَرَاء وَجَمَاعَة آخَرِينَ إِطْلَاق الْعِشَاء الْآخِرَة، وَقَدْ بَسَطْت الْقَوْل فيه فِي تَهْذِيب الْأَسْمَاء وَاللُّغَات. قَوْلهَا: «فَأَرْسَلَ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِلَى أَبِي بَكْر رَضِيَ اللَّه عَنْهُ أَنْ يُصَلِّي بِالنَّاسِ، فَقَالَ أَبُو بَكْر رَضِيَ اللَّه عَنْهُ وَكَانَ رَجُلًا رَقِيقًا: يَا عُمَر صَلِّ بِالنَّاسِ، فَقَالَ عُمَر رَضِيَ اللَّه عَنْهُ: أَنْتَ أَحَقُّ بِذَلِكَ» فيه فَوَائِد مِنْهَا فَضِيلَة أَبِي بَكْر الصِّدِّيق رَضِيَ اللَّه عَنْهُ وَتَرْجِيحه عَلَى جَمِيع الصَّحَابَة، رِضْوَان اللَّه عَلَيْهِمْ أَجْمَعِينَ، وَتَفْضِيله، وَتَنْبِيه عَلَى أَنَّهُ أَحَقُّ بِخِلَافَةِ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ غَيْره. وَمِنْهَا أَنَّ الْإِمَام إِذَا عَرَضَ لَهُ عُذْر عَنْ حُضُور الْجَمَاعَة اِسْتَخْلَفَ مَنْ يُصَلِّي بِهِمْ، وَأَنَّهُ لَا يَسْتَخْلِف إِلَّا أَفْضَلهمْ. وَمِنْهَا: فَضِيلَة عُمَر بَعْد أَبِي بَكْر رَضِيَ اللَّه عَنْهُ لِأَنَّ أَبَا بَكْر رَضِيَ اللَّه عَنْهُ لَمْ يَعْدِل إِلَى غَيْره. وَمِنْهَا أَنَّ الْمَفْضُول إِذَا عَرَضَ عَلَيْهِ الْفَاضِل مَرْتَبَة لَا يَقْبَلهَا بَلْ يَدَعهَا لِلْفَاضِلِ إِذَا لَمْ يَمْنَع مَانِع. وَمِنْهَا جَوَاز الثَّنَاء فِي الْوَجْه لِمَنْ أَمِنَ عَلَيْهِ الْإِعْجَاب وَالْفِتْنَة لِقَوْلِهِ: أَنْتَ أَحَقُّ بِذَلِكَ، وَأَمَّا قَوْل أَبِي بَكْر لِعُمَر رَضِيَ اللَّه عَنْهُمَا: صَلِّ بِالنَّاسِ، فَقَالَهُ لِلْعُذْرِ الْمَذْكُور وَهُوَ أَنَّهُ رَجُل رَقِيق الْقَلْب كَثِير الْحُزْن وَالْبُكَاء لَا يَمْلِك عَيْنَيْهِ، وَقَدْ تَأَوَّلَهُ بَعْضهمْ عَلَى أَنَّهُ قَالَهُ تَوَاضُعًا وَالْمُخْتَار مَا ذَكَرْنَاهُ. قَوْلهَا: (فَخَرَجَ بَيْن رَجُلَيْنِ أَحَدهمَا الْعَبَّاس) وَفَسَّرَ اِبْن عَبَّاس الْآخَر بِعَلِيِّ بْن أَبِي طَالِب وَفِي الطَّرِيق الْآخَر (فَخَرَجَ وَيَد لَهُ عَلَى الْفَضْل بْن عَبَّاس وَيَد لَهُ عَلَى رَجُل آخَر) وَجَاءَ فِي غَيْر مُسْلِم بَيْن رَجُلَيْنِ أَحَدهمَا أُسَامَة بْن زَيْد وَطَرِيق الْجَمْع بَيْن هَذَا كُلّه أَنَّهُمْ كَانُوا يَتَنَاوَبُونَ الْأَخْذ بِيَدِهِ الْكَرِيمَة صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ تَارَة هَذَا وَتَارَة ذَاكَ وَيَتَنَافَسُونَ فِي ذَلِكَ، وَهَؤُلَاءِ هُمْ خَوَاصّ أَهْل بَيْته الرِّجَال الْكِبَار، وَكَانَ الْعَبَّاس رَضِيَ اللَّه عَنْهُ أَكْثَرهمْ مُلَازَمَة لِلْأَخْذِ بِيَدِهِ الْكَرِيمَة الْمُبَارَكَة صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَوْ أَنَّهُ أَدَامَ الْأَخْذ بِيَدِهِ وَإِنَّمَا يَتَنَاوَب الْبَاقُونَ فِي الْيَد الْأُخْرَى، وَأَكْرَمُوا الْعَبَّاس بِاخْتِصَاصِهِ بِيَدٍ وَاسْتِمْرَارهَا لَهُ لِمَا لَهُ مِنْ السِّنّ وَالْعُمُومَة وَغَيْرهمَا، وَلِهَذَا ذَكَرَتْهُ عَائِشَة رَضِيَ اللَّه عَنْهَا مُسَمًّى، وَأَبْهَمَتْ الرَّجُل الْآخَر إِذْ لَمْ يَكُنْ أَحَد الثَّلَاثَة الْبَاقِينَ مُلَازِمًا فِي جَمِيع الطَّرِيق وَلَا مُعْظَمه بِخِلَافِ الْعَبَّاس. وَاَللَّه أَعْلَم. قَوْله صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «أَجْلَسَانِي إِلَى جَنْبه فَأَجْلَسَاهُ إِلَى جَنْبه» فيه جَوَاز وُقُوف مَأْمُوم وَاحِد بِجَنْبِ الْإِمَام. 630- قَوْله: (اِسْتَأْذَنَ أَزْوَاجه أَنْ يُمَرَّض فِي بَيْتهَا) يَعْنِي بَيْت عَائِشَة وَهَذَا يَسْتَدِلّ بِهِ مَنْ يَقُول: كَانَ الْقَسْم وَاجِبًا عَلَى النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَيْن أَزْوَاجه فِي الدَّوَام كَمَا يَجِب فِي حَقّنَا، وَلِأَصْحَابِنَا وَجْهَانِ: أَحَدهمَا هَذَا، وَالثَّانِي سُنَّة، وَيَحْمِلُونَ هَذَا وَقَوْله صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «اللَّهُمَّ هَذَا قَسْمِي فِيمَا أَمْلِك» عَلَى الِاسْتِحْبَاب وَمَكَارِم الْأَخْلَاق وَجَمِيل الْعِشْرَة. وَفيه فَضِيلَة عَائِشَة رَضِيَ اللَّه عَنْهَا وَرُجْحَانهَا عَلَى جَمِيع أَزْوَاجه الْمَوْجُودَات ذَلِكَ الْوَقْت، وَكُنَّ تِسْعًا إِحْدَاهُنَّ عَائِشَة رَضِيَ اللَّه عَنْهَا، وَهَذَا لَا خِلَاف فيه بَيْن الْعُلَمَاء، وَإِنَّمَا اِخْتَلَفُوا فِي عَائِشَة وَخَدِيجَة رَضِيَ اللَّه عَنْهَا. قَوْله (يَخُطّ بِرِجْلَيْهِ فِي الْأَرْض) أَيْ لَا يَسْتَطِيع أَنْ يَرْفَعهُمَا وَيَضَعهُمَا وَيَعْتَمِد عَلَيْهِمَا. 633- قَوْله صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «إِنَّكُنَّ لَأَنْتُنَّ صَوَاحِب يُوسُف» أَيْ فِي التَّظَاهُر عَلَى مَا تُرِدْنَ، وَكَثْرَة إِلْحَاحكُنَّ فِي طَلَب مَا تُرِدْنَهُ وَتَمِلْنَ إِلَيْهِ. وَفِي مُرَاجَعَة عَائِشَة جَوَاز مُرَاجَعَة وَلِيّ الْأَمْر عَلَى سَبِيل الْعَرْض وَالْمُشَاوَرَة وَالْإِشَارَة بِمَا يَظْهَر أَنَّهُ مَصْلَحَة، وَتَكُون تِلْكَ الْمُرَاجَعَة بِعِبَارَةٍ لَطِيفَة، وَمِثْل هَذِهِ الْمُرَاجَعَة مُرَاجَعَة عُمَر رَضِيَ اللَّه عَنْهُ فِي قَوْله: «لَا تُبَشِّرهُمْ فَيَتَّكِلُوا» وَأَشْبَاهه كَثِيرَة مَشْهُورَة. 634- قَوْلهَا: «لَمَّا ثَقُلَ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ جَاءَ بِلَال يُؤْذِنهُ بِالصَّلَاةِ» فِي دَلِيل لِمَا قَالَهُ أَصْحَابنَا أَنَّهُ لَا بَأْس بِاسْتِدْعَاءِ الْأَئِمَّة لِلصَّلَاةِ. قَوْلهَا: (رَجُل أَسِيف) أَيْ حَزِين، وَقِيلَ: سَرِيع الْحُزْن وَالْبُكَاء، وَيُقَال فيه أَيْضًا: الْأَسْوَف. قَوْلهَا: (يُهَادَى بَيْن رَجُلَيْنِ) أَيْ يَمْشِي بَيْنهمَا مُتَّكِئًا عَلَيْهِمَا يَتَمَايَل إِلَيْهِمَا. قَوْلهَا: (وَأَبُو بَكْر يُسْمِع النَّاس التَّكْبِير) فيه جَوَاز رَفْع الصَّوْت بِالتَّكْبِيرِ لِيَسْمَعهُ النَّاس وَيَتَّبِعُوهُ، وَأَنَّهُ يَجُوز لِلْمُقْتَدِي اِتِّبَاع صَوْت الْمُكَبِّر، وَهَذَا مَذْهَبنَا وَمَذْهَب الْجُمْهُور، وَنَقَلُوا فيه الْإِجْمَاع، وَمَا أَرَاهُ يَصِحّ الْإِجْمَاع فيه فَقَدْ نَقَلَ الْقَاضِي عِيَاض عَنْ مَذْهَبهمْ أَنَّ مِنْهُمْ مَنْ أَبْطَلَ صَلَاة الْمُقْتَدِي، وَمِنْهُمْ مَنْ لَمْ يُبْطِلهَا وَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ إِنْ أَذِنَ لَهُ الْإِمَام فِي الْإِسْمَاع صَحَّ الِاقْتِدَاء بِهِ، وَإِلَّا فَلَا، وَمِنْهُمْ مَنْ أَبْطَلَ صَلَاة الْمِسْمَع، وَمِنْهُمْ مَنْ صَحَّحَهَا، وَمِنْهُمْ مَنْ شَرَطَ إِذْن الْإِمَام، وَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ: إِنْ تَكَلَّفَ صَوْتًا بَطَلَتْ صَلَاته وَصَلَاة مَنْ اِرْتَبَطَ بِصَلَاتِهِ، وَكُلّ هَذَا ضَعِيف، وَالصَّحِيح جَوَاز كُلّ ذَلِكَ، وَصِحَّة صَلَاة الْمِسْمَع وَالسَّامِع وَلَا يُعْتَبَر إِذْن الْإِمَام. وَاَللَّه أَعْلَم. 636- قَوْله: (كَأَنَّ وَجْهه وَرَقَة مُصْحَف) عِبَارَة عَنْ الْجَمَال الْبَارِع وَحُسْن الْبَشَرَة وَصَفَاء الْوَجْه وَاسْتِنَارَته. وَفِي الْمُصْحَف ثَلَاث لُغَات ضَمُّ الْمِيم وَكَسْرهَا وَفَتْحهَا. قَوْله: (ثُمَّ تَبَسَّمَ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ضَاحِكًا) سَبَب تَبَسُّمه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَرَحه بِمَا رَأَى مِنْ اِجْتِمَاعهمْ عَلَى الصَّلَاة، وَاتِّبَاعهمْ لِإِمَامِهِمْ، وَإِقَامَتهمْ شَرِيعَتهمْ، وَاتِّفَاق كَلِمَتهمْ وَاجْتِمَاع قُلُوبهمْ، وَلِهَذَا اِسْتَنَارَ وَجْهه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى عَادَته إِذَا رَأَى أَوْ سَمِعَ مَا يَسُرّهُ يَسْتَنِير وَجْهه، وَفيه مَعْنَى آخَر وَهُوَ تَأْنِيسهمْ وَإِعْلَامهمْ بِتَمَاثُلِ حَاله فِي مَرَضه، وَقِيلَ: يَحْتَمِل أَنَّهُ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ خَرَجَ لِيُصَلِّيَ بِهِمْ فَرَأَى مِنْ نَفْسه ضَعْفًا فَرَجَعَ. قَوْله: (وَنَكَصَ) أَيْ رَجَعَ إِلَى وَرَائِهِ قَهْقَرَى. 637- قَوْله: (حَدَّثَنَا مُحَمَّد بْن الْمُثَنَّى وَهَارُون قَالَا: حَدَّثَنَا عَبْد الصَّمَد قَالَ: سَمِعْت أَبِي يُحَدِّث قَالَ: حَدَّثَنَا عَبْد الْعَزِيز عَنْ أَنَس رَضِيَ اللَّه عَنْهُ) هَذَا الْإِسْنَاد كُلّه بَصْرِيُّونَ. قَوْله (وَضَحَ لَنَا وَجْهه) أَيْ بَانَ وَظَهَرَ. 638- قَوْله: (حَدَّثَنَا أَبُو بَكْر بْن أَبِي شَيْبَة حَدَّثَنَا حُسَيْن بْن عَلِيّ عَنْ زَائِدَة عَنْ عَبْد الْمَلِك بْن عُمَيْر عَنْ أَبِي بُرْدَة عَنْ أَبِي مُوسَى) هَذَا الْإِسْنَاد كُلّه كُوفِيُّونَ. .باب تَقْدِيمِ الْجَمَاعَةِ مَنْ يُصَلِّي بِهِمْ إِذَا تَأَخَّرَ الإِمَامُ وَلَمْ يَخَافُوا مَفْسَدَةً بِالتَّقْدِيمِ: وَاسْتَدَلَّ بِهِ أَصْحَابنَا عَلَى جَوَاز اِقْتِدَاء الْمُصَلِّي بِمَنْ يَحْرُم بِالصَّلَاةِ بَعْده فَإِنَّ الصِّدِّيق رَضِيَ لِلَّهِ عَنْهُ أَحْرَمَ بِالصَّلَاةِ أَوَّلًا ثُمَّ اِقْتَدَى بِالنَّبِيِّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حِين أَحْرَمَ بَعْده هَذَا هُوَ الصَّحِيح فِي مَذْهَبنَا. وَقَوْله: (وَرَجَعَ الْقَهْقَرَى) فيه أَنَّ مَنْ رَجَعَ فِي صَلَاته لِشَيْءٍ يَكُون رُجُوعه إِلَى وَرَاء، وَلَا يَسْتَدْبِر الْقِبْلَة، وَلَا يَتَحَرَّفُهَا. وَأَمَّا حَدِيث عَبْد الرَّحْمَن بْن عَوْف رَضِيَ اللَّه عَنْهُ فَقَدْ تَقَدَّمَ شَرْحه فِي كِتَاب الطَّهَارَة وَمِمَّا فيه حَمْل الْإِدَاوَة مَعَ الرَّجُل الْجَلِيل، وَجَوَاز الِاسْتِعَانَة بِصَبِّ الْمَاء فِي الْوُضُوء، وَغَسْل الْكَفَّيْنِ فِي أَوَّله ثَلَاثًا، وَجَوَاز لُبْس الْجِبَاب، وَجَوَاز إِخْرَاج الْيَد مِنْ أَسْفَل الثَّوْب إِذَا لَمْ يَتَبَيَّن شَيْء مِنْ الْعَوْرَة، وَجَوَاز الْمَسْح عَلَى الْخُفَّيْنِ وَغَيْر ذَلِكَ مِمَّا سَبَقَ بَيَانه فِي مَوْضِعه. وَاَللَّه تَعَالَى أَعْلَم. 639- سبق شرحه بالباب. 640- سبق شرحه بالباب.
|